ريشة ومحبرة
قصة لـ/ هانس
كريستيان أندرسون
روي من داخل مكتب شـاعـر حالما نُظِرَ إلـى
مـحـبــرتـه الموضـوعــة على الطاولة: "عجيب ما يمكن أن يطلع من هذه المحبرة
تُرى ما الذي سيأتي منها بعد؟ أجل إنه لأمرعجيب".
"إنه لكذلك" قالت المحبرة، "
بل لا يمكن استيعابه هذا ما أقوله دوماً" موجهةً كلامها للريشة وغيرها ممن هو موجود على
الطاولة و يمكنه سماع ذلك.
"عجيب
كل ما يصدر مني، يكاد يكون أمراً يَصعُبُ تصديقه، وأنا شخصياً لا أعرف ما الذي
سيأتي مني عندما يبدأ هذا الإنسان غَرْفَه مني، فقطرة مني تكفي لنصف صفحة بكل ما
يمكن أن يأتي فيها، إنني شيء عجيب حقاً، فمِنّي أتت كل أعمال الشعراء. تلك الأعمال
هي أناس أحياء يعتقد الناس بأنهم يعرفونهم، تلك المشاعر التي تأتي من الأعماق،
وتلك الأمزجة الحسنة، ذلك الوصف الرائع للطبيعة؛ أنا شخصياً لا أفهمها لأنني لا
أعرف الطبيعة، ولكن هكذا هو الأمر في داخلي بالفعل. مني خَرجَ هذا الحشد من
الفتيات الرقيقات المتمايلات والفرسان الشجعان على الخيول الجامحة، أجل، أنا لا
أعرفهم شخصياً،
أؤكد لكم بأني لا أفكر بذلك حينها".
"إنك على حق" قالت الريشة؛ "حضرتك لا تفكرين إطلاقاً، إذ لو فكرت فستدركين بأنك لا تعطين غير سائل، غير رطوبة لكي أتمكن أنا من القول وإيضاح ما بداخلي وما أكتبه على الورق. الريشة هي الكاتب، لا يختلف حول ذلك اثنان من البشر، أغلب الناس لا تملك الفهم الكافي للشِّعر شأنها شأن المحبرة القديمة".
قالت لها
المحبرة: "كلُّ ما لدى حضرتك هو خبرةً قليلة، لم يمض على خدمتك هنا غير أسبوع
وها أنت قد بليت هل تظنين بأنك الشاعر؟ أنت لست سوى خادمة، وكان عندي الكثير ممن
هم على شاكلتك قبل أن تأتي إلى هنا، وكانوا متحدرين إما من عائلة إوز أو من معمل انكليزي؛ أنا أعرف كلاً
من الريشة وقلم الحبر، كان عندي الكثير من الخدم وسأحصل على المزيد منهم عندما
يأتي هذا الإنسان ويستخدمني، سيأتي ويكتب ما يحصل عليه من جوفي، الله يعلم ما الذي
سيصطاده بادئ ذي بدء مني!".
"أنت لست سوى وعاء حبر ليس إلا"
قالت الريشة.
عندما تقدم
المساء وصل الشاعر إلى بيته وكان قد حضر حفلاً موسيقياً استمع فيه إلى عازف كمان
رائع ما جَعَلَه مُنتشياً مأخوذاً بذلك العزف الذي لم يكن له شبيه.
كان
انهماراً رائعا للنغمات جاء من تلك الآلة وكأنه رنين قطرات ماء، لؤلؤة بعد لؤلؤة،
بل سقسقة جوق من العصافير مثل عاصفة هابة عبر غابة صنوبر؛ ظن الشاعر بأنه يسمع
قلبه وهو يبكي، وكأنه لحن يسمعه بصوت امرأة جميل. وكأن أوتار الكمان لم تكن هي
التي رنّت، بل زند الكمان؛ أجل مفاتيح الكمان واللوحة المصوتة، كانت أمراً
استثنائياً، وصعباً، أيضاً ولكنه بدا مثل لعبة وكأن القوس يركض ذهاباً وإياباً على
الأوتار، يكاد كل واحد يظن أن بإمكانه تقليد ذلك. الكمان رن لوحده، القوس عَزفَ
وحده، الاثنان أتما العمل بأكمله، نسي المرء السيد الذي قادهما، الذي منحهما
الحياة والروح نسي المرء العازف! ولكنّ الشاعر فكّر به، ذَكَرَه وكتب أفكاره هذه
حول العازف على الورق:
"يا للغباء أن يتعالى القوس والكمان على
فنيهما، وهو أيضا ما نفعله نحن البشر مراراً، الشاعر الفنان المخترع القائد
العسكري نحن جميعاً نتعالى، وما نحن جميعاً إلا آلات يعزف عليها ربنا، له وحده
الحمد، أما نحن فليس لدينا ما نتعالى به".
هذا ما كتبه الشاعر كتشبيه أطلق عليه: "السيد
والآلات".
"ها أنت قد عرفت الآن يا مدام! سمعتِ
بالتأكيد الذي كتبتُه أنا وقرأه هو بصوت عالٍ"، قالت الريشة للمحبرة عندما
كانتا وحيدتين.
" أجل سمعت ما أعطيتك أنا إياه لتكتبيه،
كان ذلك لو تعلمين غمزة على تعاليك، على عدم فهمك لما يُراد به الهُزء منك، كانت
غمزة من أعماقي مباشرةً لكِ، وهي طريقتي للتشفي منك".
"أنت لست سوى حمالة حبرٍ ليس إلا". قالت الريشة.
"وأنت لست سوى أداة للكتابة ليس
إلا". قالت المحبرة.
كان لدى كل منهما قناعة تامة بأنها على صواب،
وإنها لقناعة مريحة أن تعلم بأنك تملك الجواب الصح، فبإمكان المرء أن ينام وهو
مطمئن لذلك، وهو ما فعلته كل منهما؛ أما الشاعر فلم ينم، انهالت عليه الأفكار مثل
أنغام كمان، تتدحرج مثل اللؤلؤ، تهبُّ مثل عاصفةٍ عبر الغابة، أحس عندها بوجيبِ
قلبه، وشعر بومضةِ نورٍ من الذات الإلهية الأبدية.
تعليقات
إرسال تعليق