بسم الله
الرحمن الرحيم
فصل من رواية (صحّ النوم) ليحيى حقي
فترة تَرَيُّث
إنني أكتب هذه المذكرات ، مُقطّعةً ،
على مهل ، أنتزع لها الوقت انتزاعا ، ولكني لا أبدأ فصلا جديدا إلا اذا تلوت بعينِ
الغريب كل ما سبقه كلمة كلمة ، فبهذا وحده يدخُل الكاتب من جديد في الجو الذي تركه
، ويتّسق أسلوبه ، وتشربُ فصولُه كلها من مَعينٍ واحد ، ولو ترك نفسه ـ وهو بشر ـ
عبداً للساعة التي هو فيها لتباين قوله في غير مطلبٍ فنّيّ ، فهو حيناً نشطٌ ساخر
، وحيناً ضَجٍرٌ ملول ، وأحسَّ القارئ الناقد أنه يسير في طريق غير مستوٍ ، بعضُه
مُعبّد وبعضُه مليءٌ بالحفر، ولهذه التفلية نفعٌ آخر ، فإنها تُعين على اصطياد
الألفاظ الكاذبة ، ولِبعض الألفاظ طبائع الطفيلي ـ تندس في الكلام - ، كأنما بدافع
الغيرة توهم أنها خير لباس يصلح للمعنى في حين أنها تفسده وتقلب جدّه مزاحا ومزاحَه
سماجة ، فيُقصيها الكاتب بعد أن برأ من خداعها إلى الألفاظ الصادقة، فتأتي له على
استحياء ، شأنَ كل حرٍّ أنوفٍ لقيَ من قبلُ صدّاً .
وقد يرى الكاتب أنه رفع بعض البديهيات
الى مصافِّ الحكم ، أو أنه أوجز قولاً مغمضاً وكان يحسبُهُ في نجواه لنفسه بيّناً
، أو أنه أتى بأدلة أخرى بعد البرهان القاطع ، وقد يرى أنـه سقط فريسة سهلة في حب
لفظٍ واحد فهو يتكرر كل سطرين أو ثلاثة ، فيعجب كيف فعل هذا ، ويلوم نفسه ، ويُجري
قلمه بإزالة هذا الشطط ، ولعله يزيلُه بشططٍ جديدٍ أشدَّ نُكراً وحماقة .
وأنا حين أحببت اليوم أن أمضي بهذه
المذكرات الى غايتها لأستريح منها، وتلَوتُ ما سبق من الأوراق؛ لم أتمالك نفسي من
أن أتريثَ قليلاً ، يعترضني سؤالٌ يجُولُ بذهني : أتُرَاكَ أنصفت حقاً وصف قريتنا
كمـا هي نيتـك ؟
إن حديثك عنها هو الهامش لا المتن ، إنك
اقتصرت في الكلام على بعض الناس دون بعض ، وخصصت باهتمامك الحَانَ وحدَهُ وروّادَهُ
، لأنك واحدٌ منهم ـ وهم شواذ* - ، وَصَفتَهم اشتاتاً لا يجمعهم رباط واحد ، شأن
ضيوف « الألبوم » ، الغـريب في قفا القريب ، أو كهذه المرايا المضحكة في حدائق
الملاهي ، مصطفّة
جنباً لجنب تنطلق للمارِّ أمامَها برسومٍ متباينة ، وما هي جميعاً إلا رسمُهُ هوَ
، فلم يُخفِ وصفُك للأشخاص - رغـم تحايلك على التستر ـ انعكاس صورتك أنت ، وأجريتَ
على ألسنتهم كلاماً لا يُتَوَقَّعُ من أمثالهم . ـ وهو كلامك أنت ، وهذا تطفُّلٌ
أو غرور ، أو كلا الوِزرَيْن معا .
وليس
لي من إجابة على هذا السؤال إلا ابتسامةً تذوب في صمتها حُجّتُه ، نعم ، لعلي
أرهقت القارئ ، والناس تحب اليوم أن تقرأ للتسلية ، ولكنه لو منحني بعضَ ثِقَتِه
فسـيـرى بعد قليل أنه سيعيد تقليب « الألبوم » فيبدو له أهلُه في صورة جديدة ويرى
رِبَاطهم
، فإن الكاتب يحب أحياناً أن يَتخَابَثَ فيحجِزُ في يده بعض أوراق اللعب لا يكشفها
إلا حين يحـلو له ، متى قدّرَ أنّ صبرَ القارئ قد تداعى أو أن لهفته قد بلغت أقصى
مداها.
ويعلم الله أنني ما أردت التخابث وإنما هكذا انشقّ الدربُ أمامي ، ولو استطعت أن أجمع كل ما عندي في صفحتين لفعلت ؛ ولو اهتديت الى نسقٍ آخرَ أكثرَ تسليةً للقارئ لما عَدَلْتُ عنه، فكيف يُنَغِّصُ عليه مَن يطمعُ في الفوز بوِدِّه ؟
واقتصرتُ
على وصف بعض روّاد الحان ، وتركت بقيّتَهم خشيةَ الإطالة ـ لأنهم هم الذين وجدتُ
في حياتهم عبرة ، هم الشواذ* ، مُقدَّرٌ عليهم ـ وهذا دورهم المقسوم لهم في
دنيـانا ـ أن
تترکّز فيهم حدة المتاعب والمشاكل الموزّعَة ـ حتى تبدّدَ أثرُها -بين العامة ،
فهم خير من ينطق بما هناك ، وهم أيضا ـ وهذا عدلٌ تحت قناعٍ من الظلم ـ أوّلُ من
يتلقّى الصدمة اذا أصيبَ كيان المجتمع بهزة ، كالنتوء البارزة في الجذع ، عنوان سر
الشجرة ، ومكمن الحياة لفروع جديدة ، أوّلُ ما يسقط اذا أريد تهذيب هذا الجذع.
أما بقية أهل القرية فهم ملحُ الأرض ، يكسبون
رزقهـم بشقِّ الأنفس ، يكابدون ـ كالحيوان ـ من مطلع الشمس الى مغربها ، عملاً مُرهِقاً
تُنجِزُه الآلات في بلاد أخرى بأيسر جهـد ونفقة في وقت قليل . وليتهم بعد ذلك
فازوا بما يُقيمُ أوَدَهُم أو يستر عُريَهم - وهم مع ذلك قانعون . حارُوا في فِهم
القَدَر ، وتعليل أسبابِ الخَلل ، وطال تساؤلهم متى تنتهي المظالم وتنعَـِدلُ
الأمور ويستقيم المُعْوَجُّ ويَعُـُّم السـلام ؟
وهم
مع ذلك صابرون ، أصبح مطلبُهم الأوحد أن يُتْرَكُوا لأنفسِهم ، لنسائهم وعيالهم ،
لدوابِّهم وشقائهم ، لإيمانهم وخرافاتهم . كلُّ جديدٍ في الحياة عندهم ضئيلٌ اذا
قيس إلى قديمِهم . وإنَّ أمنع الدروع هو الذي يلبَسُه مَن لا يُبالي .
إذا
قالوا « إنما الأعمال بالنيّات » عَنوا بها : إنما الأعمال بخواتیمها ، واذا لم ترَ
وجوههم مبتسمةً أغلبَ الوقت فلأنهـم يضحكون في سِرِّهم من الخطيب والبهلوان ،
والواعظ والمهرِّج.. خلّيها على الله
!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معنى شواذ أي
المنفردون عن الجماعة المخالفون لهم.
تعليقات
إرسال تعليق