بسم الله
الرحمن الرحيم
المستحيلات الثلاث
يقول الشاعر الأندلسي صفي الدين الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم خـِلٌّ
وفيٌّ للشدائد اصـطُـفي
فعلمت أن المسـتـحيـل ثـلاثـة الغول
والعنقاء والخل الوفي
المستحيلات عند العرب ثلاث: الغول والعنقاء والخِلّ الوفيّ.
الغُولُ:
كلُّ ما أَخَذَ الإِنسانَ من حيث لا يدري فأَهلكه.
والغُولُ مفرد الغِيلان، تزعم
العربُ أَنه نوعٌ من الشياطين يَظهر للناس في الفلاة، فَيَتَلَوَّن لهم في صور
شتَّى ويَغُولهم، أَي يُضلِّلهم ويُهلِكُهُم.
وكانت العرب تقول إِن الغِيلان في
الفَلَوات تَراءَى للناس، فتَغَوَّل تَغَوّلاً أَي تلوّن تلوّناً، فتضلّهم عن
الطريق وتُهلكهم، وقيل: هي من مردَة الجن والشياطين، وذكروها في أَشعارهم، فأَبطل
النبي ما قالوا؛ ففي مصنف ابن أبي شيبة من حديث جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا
غول ولا صفر.
وقيل: قوله لا غُولَ ليس نفياً لعين
الغُول ووُجوده، وإِنما فيه إِبطال زعم العرب في تلوّنه بالصُّوَر المختلفة
واغْتياله، فيكون المعنيّ بقوله لا غُولَ أَنها لا تستطيع أَن تُضل أَحداً، ويشهد
له الحديث الآخر: لا غُولَ ولكن السَّعالي؛ السَّعالي: سحرة الجن، أَي ولكن في
الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل.
قال عنترة:
والغُولُ بينَ يديَّ يخفَى تارة ويعودَ
يَظْهَرُ مثْلَ ضَوْءِ المَشْعَلِ
بنواظر زرقٍ ووجهٍ أسودٍ وأظـافـر يشبهـنَ حـدَّ المـنـجـل
قال القزويني: وقد رأى جمع من الصحابة
منهم عمر بن الخطاب حين سافر إلى الشام قبل الإسلام فضربه بالسيف، ويقال :
إنه كخلقة الإنسان لكن رجلاه رجلا حمار.
وفي تحفة
الأحوذي، للمباركفوري باب
ما جَاءَ في سُورَة الْبقَرَةِ وَآيَةِ
الكُرْسِي،
عن أَبي أَيّوبَ الأَنْصَارِيّ: أَنّهُ كَانَتْ
لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ، فَتَأْخُذَ مِنْهُ، فَشَكَى
ذَلِكَ إِلَى النبيّ، فَقَالَ: "اذْهَبْ فإِذَا رَأَيْتَهَا" فَقلْ:
بِسْمِ الله أَجِيبِي رَسُولَ الله، قالَ: فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ
تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إِلَى النبيّ فَقَالَ: "مَا فَعَلَ
أَسِيرُكَ"؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ قالَ: كَذَبَتْ وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ
لِلكَذِبِ، قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرّةً أُخْرَى، فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ،
فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَ إِلَى النبيّ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قَالَ:
حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ، فَقَالَ: "كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ".
فَأَخَذَهَا فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَاركِكِ، حَتّى أَذْهَبَ بِكَ إِلَى النبيّ،
فَقَالَتْ إِنّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئَاً: آيَةَ الكُرْسِيّ اقْرَأْهَا فِي
بَيْتِكَ، فَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلاَ غَيْرُهُ، قال فَجَاءَ إِلَى النبيّ
فَقَالَ: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟" قالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ.
قالَ: صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ". قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ
أما العنقاء:
فيزعمون أنها طائر عظيم كان في
عهد سليمان ثم اختفى، وقيل إنها كانت بالحجاز تخطف الأطفال، فدعا عليها
أحد الأنبياء فاختفت.
وفي كتاب العين : والعَنْقاء طائرٌ لم
يَبْقَ في أيدي الناس من صِفتها غيرُ اسمِها. ويقالُ بل سُمِّيَتْ به لبياضٍ في
عُنقِها كالطَّوق.
وفي معجم الأمثال والحِكم
:حَلَّقَتْ بِهِ عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ : مَثَلٌ يضرب لما يُئِس منه، العَنْقَاء: طائر عظيم معروف
الاسم مجهول الجسم، وأغرب: أي صار غريباً، وإنما وُصِف هذا الطائر بالمُغْرِب
لبعده عن الناس، ولم يؤنثُوا صفته لأن العنقاء اسمٌ يقع على الذكر والأنثى كالدابة
والحية.
قال الخليل :سميت عنقاء لأنه كان في عُنُقها بياض
كالطَّوْق، ويقال: لطولٍ في عنقها.
قال ابن الكلبي :كان من أهل الرس رجل صالح يقال له:
حَنْظَلة بن صَفْوَان، وكان بأرضهم جبل يقال له دَمْخ مَصْعَدُه في السماء مِيل،
وكانت تَنْتَابُه طائرة كأعظم ما يكون لها عنق طويل، من أحسن الطير، فيها من كل
لون، وكانت تَقَعُ منتصبة، فكانت تكون على ذلك الجبل تنقَضُّ على الطير فتأكله،
فجاعت ذاتَ يوم وأَعْوَزَتِ الطير فانقضَّتْ على صبي فذهبت به، فسميت: "عَنْقَاء
مُغْرِب" بأنها تغرب كل ما أخذته، ثم إنها انقضَّتْ على جارية فضَمَّتها إلى
جناحين لها صغيرين ثم طارت بها، فشكَوْا ذلك إلى نبيهم، فقال: اللهم خُذْهَا،
واقْطَعْ نَسْلَها، وسَلطْ عليها آفة، فأصابتها صاعقة فاحترقت، فضربتها العربُ
مَثَلاً في أشعارها.
أما الخِلُّ الوفيّ:
ففي الحديث:
تجدون الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة.
متفق عليه. وفي رواية: لا
تكاد تجد.
قال ابن حجر: وكذا
لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون صاحبه ويلين جانبه.
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : شر الاخوان
الواصل في الرخاء الخاذل عند الشدة. وقالوا اعْرِفْ الرَّجُلَ مِنْ فِعْلِهِ لا
مِنْ كَلامِهِ، وَاعْرِفْ مَحَبَّتَهُ مِنْ عَيْنِهِ لا مِنْ لِسَانِهِ
.
فالخل الوفي موجود، ولكنه نادر وقليل،
والإسلام قد حث على الأخوة واتخاذ الأخلاء، فأول ما بدأ به النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة بعد أن اتخذ مسجدا هو مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار.
وفي الحديث : لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. متفق
عليه.
ولكن لابد أن تكون الأخوة والخلة
مبنية على أسس صحيحة لتثمر وفاء وإخاء صحيحاً، كما في قوله تعالى } الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ {الزخرف:
67. وقوله
}ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني
اتخذت مع الرسول سبيلا * يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي {الفرقان:
27-29.
فإذا بنيت الخلة والصداقة على الحب في
الله أثمرت وفاء ونصحاً وصدقاً، وأما إذا بنيت على الشهوات والحظوظ الدنيوية،
فإنها سرعان ما تزول بزوال سببها،
عن أَبي هريرة رضي الله عنه : أن
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ،
فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ )) رواه أَبُو داود والترمذي بإسناد صحيح.
وجُعلت من أقوى الروابطِ الإيمانيةِ؛
كما قالَ صلى الله عليه وسلم: "أَوْثَقُ
عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ -عز وجل-
عن
أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( ما تحاب اثنان في الله إلا
كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ) صحيح الجامع 5594
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما
قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَثَلُ المُؤْمِنينَ في
تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى
مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى )) مُتَّفَقٌ
عَلَيهِ
وروى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:
"أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ
اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ -أي
طريقِه- مَلَكًا،
فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي
هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ:
لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ -عز وجل-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ".
وقالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي".
وجاءَ في السَبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: "وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ".
وسمعَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رضي الله
عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ
اللَّهُ -عز وجل-: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ
يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ".
وجاءَ في حديثِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:
"إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا
شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ -تعالى-، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا
مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ
بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَ اللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ
لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا
يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:(
ألا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)يونس:
62.
تعليقات
إرسال تعليق